02/02/2020 - 15:10

ميلادنا قريب | نُطفة حبّ تقطع الأزمنة الموازية

ميلادنا قريب | نُطفة حبّ تقطع الأزمنة الموازية

سناء سلامة ووليد دقّة لدى عقد قرانهما عام 1999

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

يأتيه الآن صوت من المستقبل القريب العاجل، يكسر صمت العنبر في "هَداريمْ"، وصور تتوافد وتتزاحم في رأسه، تقطع الآن كحلة الزنزانة، وتُنْثِر في مخيّلة "أبو ميلاد" سعادة مركّزة ومعتّقة منذ أكثر من ثلاثين عامًا. أصوات وصور وأشكال تتقاذف فُرادى وجماعة لديه حتمًا؛ فبعد أيّام سيكون الأسير وليد دقّة وزوجته سناء سلامة أبًا وأمًّا لميلاد، فعلًا لا مجازًا فحسب، إذ لا يفصل بينهما وبين طفلتهما ميلاد إلّا القليل، بعد أن نجح الزوجان في تهريب نُطْفَة من داخل الأسر قبل أشهر، لتُبعث منها الطفلة ميلاد، وتُعْلِن أخيرًا تقاطع الأزمنة الموازية لديهما.

بعد ما يقرب الشهر، يتمّم وليد دقّة، ابن مدينة باقة الغربيّة، عامه الرابع والثلاثين في الأسر، تنقّل خلالها بين السجون الإسرائيليّة المختلفة، قابضًا على أمله وحبّه اللّذين وقف السجّان حائلًا بينهما وبينه. بعبارات "أكتب لطفل لم يولَد بعد... أكتب لميلاد المستقبل... فهكذا نريد أن نُسمّيه/ نُسمّيها، وهكذا أريد للمستقبل أن يعرفنا"، يخاطب وليد ميلادًا ابنته (ولم يكن يُدرك وقتئذٍ جنس الطفل)، مبشّرًا إيّاها بأنّها تملك "ملفًّا أمنيًّا في المخابرات"، حيث منعت السلطات الإسرائيليّة، على مدار السنين الماضية، الزوجين وليد وسناء من الإنجاب، ورفضت كلّ طلباتهما "للاختلاء الشرعيّ"، كما تُسمّيها لغة القانون الاستعماريّ، تحت ذريعة "الخطر الأمنيّ".

 

نُطفة الحبّ المهرّبة إلى الذاكرة

وليد وسناء تزوّجا عام 1999 رغم وجوده في الأسر، واللذان لا يعرفان للمستحيل سبيلًا، نجحا في أن يختطّا للحبّ سبيلًا "أوتوستراديًّا" مجّانيًّا إلّا من ضريبة الحرمان، سبيل لا يعترف بإشارات الاحتلال الضوئيّة ولا يسير بموجبها. ضاقت أروقة المحاكم وارتعشت لفكرة إنجاب ميلاد فمنعته قانونًا؛ فارتحل الحلم من خلال "نُطفة مهرّبة" من الأسر، وانطلقت في مسلك آخر، وسارت حتّى حوّلت ميلاد من ملفّ أمنيّ في المخابرات، وفكرة في مخيّلة وليد وسناء، إلى واقع تضيق به كلّ أنظمة القهر والاستبداد، يُحاصرها بعد أن كسر طوقه. كم ستكون كلمات عبد الرحمن الأبنودي القاسية، تلك الّتي لحّنها عمّار الشريعي لفيلم "البريء"، رقيقةً وتبعث الطرب اليوم على أُذُنَي وليد: "زنزانتي لو أضيق أنا من ورا السجّان، بالعتمة بتشعلق حتّى على الدخّان"!

كان خبر إضافة سنتين لسجن وليد ... كالصاعقة عليه وعلى سناء وعلى كلّ محبّيه، وفي كلّ نفس منّا كلام مُخبَّأ مُختنق في الصدر، لا يجرؤ على البوح به حتّى لنفسه، كلّنا قلنا في سرّنا قهرًا: "تبدّد حلم ميلاد"، "ضاعت الفرصة"

لطالما بدا وليد مسكونًا ومسلوبًا بفكرة الزمن والذاكرة، يقاومها من خلال تهريب كتاباته كلّما استطاع، كي لا يتغذّى السجن على ذاكرته؛ فالسجن كما يقو كالنار، يتغذّى على حطام الذاكرة. أمّا ميلاد فهي أجمل تهريب لهذه الذاكرة، كما كتب وليد قبل سنوات، وهل أجمل من الذاكرة حين تُهَرَّب على شكل تفاصيل وأيّام تنتمي إلى المستقبل؟

أحيانًا - وفي مشهد عبثيّ – أتصوّر وليدًا يحدّق بالتاريخ والذاكرة، كما حدّق والتر بنيامين بهما قبل أن يكتب أطروحاته الأخيرة حول التاريخ مُقَدِّمًا لنا تفسيره للوحة "ملاك التاريخ" لبول كلي. ميلاد الآن يا وليد، تُعيد تفسير اللوحة من جديد؛ فهي مثل "ملاك التاريخ"، فيها يحدّق بنا نحن المارّين بين الحطام ننتظر الخلاص من المستقبل، ينطق من قلب اللوحة ويقول لنا مجدّدًا إنّ الخلاص والنصر قد يكون مُخبَّأً في كلّ لحظة ولحظة، فلا تنتظروا بسكون "اكتمال الشروط التاريخيّة"، حتّى يأتي من المستقبل، بل إنّ كلّ لحظة من الحاضر قد تُنبِئ بثورة.

كان خبر إضافة سنتين لسجن وليد، قبل ما يقارب عامين، على إثر قضيّة الأسير المحرَّر د. باسل غطّاس، كان كالصاعقة عليه وعلى سناء وعلى كلّ محبّيه، وفي كلّ نفس منّا كلام مُخبَّأ مُختنق في الصدر، لا يجرؤ على البوح به حتّى لنفسه، كلّنا قلنا في سرّنا قهرًا: "تبدّد حلم ميلاد"، "ضاعت الفرصة"؛ إذ إنّ إضافة عامين تعني خروج وليد من الأسر عام 2025. كم أتخيّل ميلاد الآن مثل "ملاك التاريخ"، تضحك علينا من المستقبل مستهزئة بحسرتنا، وتخرج علينا عمّا قريب لتقول: "لا شرطيّة في الأمل"؛ فهو ينبت في كلّ لحظة من حاضرنا ما دام قد عثر على مَنْ يستمسك به، ومَنْ أنضج من وليد وسناء ليستمسكوا به! كما قال قبل عام: "اليأس رفاهية ليس لمثلي الحقّ فيها".

 

ميلاد تقطع الزمن الموازي

في واحدة من أجمل ما كُتب من رسائل الأسر، كتب وليد رسالة في اليوم الأوّل من عامه العشرين بعد الأسر، يخبرنا فيها عن زمانه الموازي في الأسر، وعن عمره في الأسر الموازي لعمره خارجه، عن وحدات قياس الزمن المختلفة بين العالمَين الموازيين: عالم الأسر والعالم الخارجيّ. لقد كان كلّ شيء في حياة وليد لا يقبل القسمة إلّا على اثنين، أمّا الآن فقد تبدّدت الحدود بين العالمين، وتزعزعت الثنائيّة التضادّيّة بينهما؛ فميلاد هي التقاطع بين الأزمنة الموازية، وزمن موازٍ ثالث لهما كذلك. في السابق كان كلّ شيء ينتمي إلى أحد العالمين؛ فلا ازدواجيّة في الانتماء: إمّا الانتماء إلى الأسر وإمّا الانتماء إلى خارجه، أمّا الآن فميلاد تنتمي إلى العالمين، إنّها تجلس متربّعة في فضاء "بينيّ"، تنتمي إلى الزمانَين الموازيين تارة، ولا تنتمي إلى أيٍّ منهما تارة.

في السابق كان كلّ شيء ينتمي إلى أحد العالمين؛ فلا ازدواجيّة في الانتماء: إمّا الانتماء إلى الأسر وإمّا الانتماء إلى خارجه، أمّا الآن فميلاد تنتمي إلى العالمين، إنّها تجلس متربّعة في فضاء "بينيّ"، تنتمي إلى الزمانَين الموازيين تارة، ولا تنتمي إلى أيٍّ منهما تارة...

في الرسالة ذاتها، يقول وليد إنّ النهر لا يقطع مرّتين، في حين أنّ نهر السجن يقطع آلاف المرّات، فكم مرّة سوف يقطع نهر ميلاد إذن؟ إنّه يقطع السجن وخارجه، إذا كان لوليد ورفاقه في الأسر وحداتهم الخاصّة لقياس الزمان ضمن علاقتهم الخاصّة بالمكان، وإذا كان لنا نحن في مقابله وحداتنا الخاصّة ضمن علاقتنا أيضًا بأمكنتنا خارج الأسر، فما ستكون وحدات قياس زمان ميلاد، تلك الّتي تسكن خارج المكان، تسكن داخل المكانين معًا أحيانًا، وتسكن خارجهما في الوقت ذاته. إنّها تنتمي إلى مكان خاصّ وُلد من رحم تقاطع هذين الزمانين والمكانين معًا.

 

وتتحدّى الزهايمر

كما هي حياة الفلسطينيّين؛ فلا نور قمر يتوهّج إلّا يُذْكَر معه قتامة العتمة، ستأتي ميلاد بعد أن فارقت الذاكرة جسد جدّتها، أمّ حسني، بعد أن تمكّن منها مرض الزهايمر، الّذي لطالما ظلّ غصّة في قلب وليد، بعد أن تمنّعت ذاكرة والدته مرّة من معرفته، لكن يبدو أنّ الذاكرة كالروح لا تعرف الصمت أو الموت؛ فإن ضاق بها جسد حلّت ضيفًا رشيقًا في جسد آخر، تنطفئ ذاكرة أحدهم وتتوهّج ذاكرة جديدة لدى آخر؛ فكأنّ الذاكرة الآن حطّت وسكنت ميلاد.

 ربّما تُحيل هذه العبثيّة إلى مشهد دراميّ في المسلسل الجميل "ذكريات الزمن القادم" (2003)، حيث تفقد الجدّة الفلسطينيّة أمّ يوسف ذاكرتها، أو بالأحرى تتوقّف عند النكبة، طيلة المسلسل، إلى أن يطلّ عليها حفيدها ماجد من الزمن الآخر "الزمن الموازي"، ويرحل بها ويسافران معًا إلى عالم آخر. وفي خلفيّة المشهد تصدح كلمات محمود درويش: "كم مرّة ستسافرون؟ وإلى متى ستسافرون؟ ولأيّ حلم؟ وإن رجعتم ذات يوم فلأيّ منفًى ترجعون؟" كأنّ المخرج يوحي أنّ السفر في هذه الحالة ليس سفرًا فعليًّا، بل سفر الذاكرة المجازيّ، الّذي يتعدّى المكان، وإن ضاق به مكان فتّش عن آخر، وحطّ به.

كانت أمّ ميلاد تسأل دومًا عن سرّ إصرار الشباب والشابّات على مناداتهما بـ "أبو ميلاد وأمّ ميلاد"، كنّا نقول إنّ ذلك يشعرنا بأنّنا نمدّهما بقوّة، بأنّ في هذه المناداة موقفًا سياسيًّا في حدّ ذاته. لكن ما كنّا نُخبّئه عنها، أنّ المناداة كانت تحمل هامشًا من الغصّة بين التأمّل والتعقّل في آنٍ معًا؛ لذا لم نكن نملك "امتياز" أن نناديهما باسميهما "حاف". أمّا الآن فبتنا نملك هذا الامتياز، ونستطيع أن نناديهما بوليد وسناء، أو "أبو ميلاد وأمّ ميلاد" دون أن يترتّب على ذلك إلّا شعور التوق إلى ميلاد.

حين سألتُ العزيزة أمّ ميلاد عن شعور وليد، قالت: "وليد بلّش يفكّر شو بدّه يكون موقفنا إذا ميلاد قرّرت تحطّ تاتو مثلًا"! قد يبدو ذلك مفاجِئًا للبعض إلّا لمن يعرف هوس وليد بالتفاصيل، وكيف ينسج أعمق العلاقات بأبسط الأشياء من حوله؛ فكيف إذن، والحديث عن ميلاد؟

لا شكّ في أنّ أيّام وليد وسناء ساعاتها طويلة في هذه الأثناء، والساعات لديهما أطول من دقائقها، كيف إذن وهو الّذي لم تنل من إنسانيّته خشونة السجن، بل تحوّل لديه الشعور بالذهول إزاء الفظائع والمآسي إلى مقياس لمدى صلابته وإنسانيّته؟ وما أكثر هذه الفظائع الّتي وجدت سبيلها إليه، وكأنّ ميلاد الآن تخرج من بينها، تقتبس شخصيّة سونيا في مسرحيّة "الخال فانيا"، وتُهدِّئ من روعه، وتُنبّئه أنّه سيرتاح "بالحياة" بعد الوجع والمآسي. الانتصار على السجّان في عُرْفِه ليس بأن تُتَوَّج "جنرالًا للصمود"، وهي صفة يكرهها وليد، بقدر ارتباطك وانتمائك إلى قيم الحرّيّة، وهذه الأخيرة لا تكون إلّا بارتباطك بهواجس البشر الإنسانيّة وتفاصيلها.

حين سألتُ العزيزة أمّ ميلاد عن شعور وليد، قالت: "وليد بلّش يفكّر شو بدّه يكون موقفنا إذا ميلاد قرّرت تحطّ تاتو مثلًا"! قد يبدو ذلك مفاجِئًا للبعض إلّا لمن يعرف هوس وليد بالتفاصيل، وكيف ينسج أعمق العلاقات بأبسط الأشياء من حوله؛ فكيف إذن، والحديث عن ميلاد؟ لم تنل خشونة السجن من الهوس بالتفاصيل، إلى درجة أنّ زامور سيّارة سوبارو أبكاه ذات مرّة، كما قال في إحدى رسائله، لكن لا شكّ في أنّ صوتًا الآن أطرب وأحبّ إليه من زامور السوبارو يُبكيه بغزارة، صوت ميلاد تخاطبه: "إنّني أؤمن يا أبي، يا أبي العزيز... أؤمن بحرارة وقوّة... سنرتاح".

 

شكرًا للصديق أحمد بيقاوي على اقتراح العنوان.

 

خالد عنبتاوي

 

طالب دكتوراه في "معهد جنيف - قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا". باحث في مركز "مدار"، كما عمل في مركز الدراسات "مدى الكرمل"، وهو ناشط سياسيّ واجتماعيّ. نشر عدّة موادّ سياسيّة في مجلّة "جدل" ومجلّة "قضايا إسرائيليّة"، وكذلك موادّ ثقافيّة في منابر أخرى. صدرت له مؤخّرًا دراسة حول "الحكم العسكريّ في الضفّة الغربيّة" عن مركز "مدار".

 

 

التعليقات